علي وجيه يكتب: بلا أملٍ ولا يأس
الكاتب: علي وجيه
(١)
ثمّةَ شعورٌ بتأنيب الضمير الخفيف، أواجهُه حين أشاهد فيلماً روائياً أو وثائقياً عن الحرب العالميّة الثانية، أو أيّ لحظة سوداء من لحظات التأريخ البشريّ حين يستذئبُ الإنسان على أخيه الإنسان، وتأنيب الضمير هذا يأتي وكأنّ نسقه المضمر يقول: آسف، لأنكم اختبرتم هذا ولم نختبره، تعرّضتم لِما لم تتعرّض له البشرية فيما بعد.
لكنّ البشرية، وذلك الكائن القبيح الذي اسمه "الإنسان" مصرّة على "عَوْد أبديّ" لكنه سريع، تكرارٌ فجّ لكل السوء والسواد، حتى ليبدو القتيلُ مستداماً بجثث الضحايا على خطّ الزمن، والقاتل واحداً، والمقبرة واحدة، ولا يتغيّر إلا الاسم، ثم يمارس الضحيّة والقاتل دور التبادل، بينهما، في دائرة توحّش، تشبه كلبين برأس واحد، ينشبان المخالب ببعضهما، وهما برأس واحد، وكلّما ارتاح واحدٌ يُجبره الآخر على ممارسة الحرب المستدامة هذه.
بين الهولوكوست، ومجزرة الأرمن، و٢٠٢٢ لم يعد هناك تأنيب ضمير خفيف، الفيلم الروائيّ أو الوثائقيّ ما زال مستمراً.
(٢)
الكتابةُ عمّا يدورُ إهانةٌ للكتابةِ ولِما يدور في الوقت ذاته، ثمّة ما لا يُكتب، ثمّة ما يستطيلُ ويصبحُ أكبر من الكتابةِ والنصّ، لو سألتُ، في سيناريو افتراضيّ، أحدَ المكتئبين الخالدين، ربّما سأختار لوتريامون تحديداً، وألتمسُهُ بأن يضعَ ما يُعاني، بلا مجازٍ، في ميزانٍ مع ما كتب من أناشيده، ستبدو الأناشيدُ، وسيقولُ لي، أنّها أقلّ بكثير ممّا يحدث. المجازُ يخفّفُ ضربةَ السكّين، وكيفَ يبدو العالمُ ضيّقاً مثل خاتم، بل يُمعنُ بوضع الوعي على الصرخة، والصرخةُ الواعيةُ ليست صرخةً أبداً.
الكتابةُ بمواجهة خراب الكائنِ إمعانٌ بتخريبه أكثر، تخيّل للحظة، أنّكَ تودُّ أن تصرخ، بأعلى قوّة بشرية تمنحها لكَ رئتاك، وحينَ تجدُ أنّ موقع العمل لن يتيح لك فرصة الصراخ، ولا البيت، ولا الشارع، تختار أن تصرخ على ورق، أو على الكومبيوتر، فيستيقظ "هادم الصراخ"، وعشوائيّته، ليحوّل ما يحدث إلى نصّ بارد، يمتدُّ على السطر مثل جثّة باردة، جثّة مليئةٍ بالفوارز والنقاط.
(٣)
لا أعلمُ لِماذا أشعرُ أنّ بداخل أبي نؤاس شاعراً أشدّ حزناً واكتئاباً حتى من المعرّي؟ أشعرُ أنّهُ ضحكَ وسخر من الجميع، أعني قرّاءه ومحقّقيه ودارسيه، مُجايليه وأمراء المؤمنين الذين عاصرهم، وحتى الغلمان والجواري الذين اقتطف من أجسادهم ما اقتطف، وصاروا قصائدَ تُحذف من بعض طبعات ديوانه، أتخيّل أنّهُ ضحكَ وخدعَ أبا نؤاس أولاً، ثم خدع الآخرين لأنه انخدع، ونجح بذلك.
لم يذكر ديوانه، أو أخباره، أبا نؤاس خارج وقت كأسه، أو التماعات سخريته وضحكه ومجونه، لم يكتب أبو نؤاس يوميّاته، ولم يكن معنيّاً أن يعرف العالم أبا نؤاس الآخر، داخلَ أبي نؤاس الضاحك.
يُخيّلُ لي، أنّ ديواناً آخر لأبي نؤاس، ضائعٌ في مكانٍ ما، يسلخُ من الخمرة سوادها، ومن الجارية ابتعادها، ومن الغلام تمنّعه، عن انقضاء اللذّة، عن الطَلليّات التي يهاجمُ مَن يقفُ عليها. أشعرُ أنّهُ يقفُ على أطلالٍ داخليّة، لا يراها سواه.
(٤)
القطعةُ الصغيرةُ بين امبراطوريّتين عملاقتين، على طول التأريخ، تلك التي اسمُها "العراق"، ستبقى دولة "الرجل المريض"، البلد الذي لن يسمح له أحدٌ بالانهيار والموت التام، ولن يُسمح له أبداً بالوقوف على قدميه بشكل تام، منطقة نفوذ مُتقاسَمة، أوراق ضغط، لعبٌ على تنوّعه وانتماءاته، دولة لن ينفع معها اليأس لأنّ هناك أملاً بالتعافي، مستمرّاً، ولن ينفع معها الأمل لأن فيها انهداماً لا ينتهي.
اللعنةُ الجغرافيّة، تلك التي صنعتنا، دونَ أمل ولا يأس، دون دولة ولا بلد ولا حاضر ولا أمس.