هذه مراجعة بسيطة لأحد أهم الكتب او الوثائق التي تتحدث عن الحقبة الملكية في العراق، هذه الحقبة التي مرت بأحداث و انعطافات سياسية بارزة جداً، حتىٰ وأن تواريخ أبرز احداثها بقيت بأذهان العراقيين ليومنا هذا، كثيرون هم من كتبوا عن تاريخ العراق سواء قبل الملكية والاحتلالات التي سبقتها او اثناء الملكية او بعدها، ومن المتعارف أن من يكتبوا هم اصحاب تخصص بهذا الشأن او خبراء، منهم من يكتب وجهة نظره بعمل او حتى مجلد ومنهم من يكتب لأنه يمتلك وثائق ويجب ان يوثقها، ولنا اسماء بارزة كتبت عن تاريخ العراق اذا كانوا عراقيين ام عرب او حتىٰ أجانب.

فمثلاً من العرب؛ ابرز من كتب عن التاريخ الحديث العراقي الكاتب الفلسطيني حنا بطاطو، ومن العراقيين البارزين الكاتب عبد الرزاق الحسيني، وغيرهم من الاسماء، واليوم انا بصدد الحديث عن شخص دون احداث حياته في العراق وهو شخصية بارزة في وقته وليس عراقي الأصل، لذلك ما سيتم ذكره في هذا المقال هو من وجهة نظر مختلفة وليس لكاتب او مفكر كما ذكرت هو طبيب العائلة الملكية، هذا فضول فعلاً لنتعرف على مجريات الحياة و تفاصيلها بوقته من وجهة نظره الخاصة والتعرف على اسرار العائلة الملكية العراقية كونه كان مرافقاً لافراد العائلة .

النسخة التي امتلكها من الكتاب طبعة قديمة جداً حتىٰ ان لون الاوراق أصفر، وهذه الطبعة طبعت بموجب موافقة وزارة الثقافة والإعلام في 22 نيسان 1981. الكتاب مكون من "٤٠٩" صفحة.  متضمنا ثمانية عشر فصلاً مقسمة على كل مرحلة او فترة زمنية بدايتها من دخوله لبلاد الرافدين ثم اختياره طبيباً خاصاً للملك وصولاً الى ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ .

يعد الطبيب الانكليزي "هاري سندرسن" من أشهر الشخصيات البرطانية التي عملت في العراق اثناء الحكم الملكي، فهو بحكم عمله طبيباً يلعب دوراً بارزاً في حياة افرادها، وفي عام ١٩٧٣ نشر سندرسن مذكراته التي وضع لها عنواناً طريفاً هو "عشرة آلاف ليلة وليلة" وهي الخدمة الرسمية التي قضاها في العراق .
يبدأ سندرسن حديثه عن بداية دخوله لارض الرافدين سأذكرها بشكل مبسط.

يقول سندرسن: "كانت اول نظرة ألقيتها علىٰ العراق، من خلال ناظور ميدان، وانا علىٰ جسر السفينة منتونكا التابعة لشركة خطوط الأطلسي وذلك في مبكر سنة ١٩١٨،  كان على ظهر سفينة نقل الجنود التي تقرر ان تتوجه الى البصرة من مدينة (سلانيك) الهيئة والتجهيزات الكاملة لمستشفى يضم خمسمائة سرير عرف باسم المستشفى الخامس والستين. "
وضع عنوانا مثيرا لاحد فصوله واسمها بـ "بلاد الرافدين تلك الكلمة المباركة". يقول سندرسن ان "معلومتنا الجغرافية كانت ضعيفة جداً عن بلاد الرافدين ومحدودة . كنا نعرف بأن الإسكندر الكبير قد توفي هناك، وأن بغداد هي عاصمة البلاد قبل أكثر من ألفِ سنةٍ خلت وهي موطن الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي ابرزت شهرته قصص ألف ليلة وليلة، فيما عدا ذلك لا نعرف شيئاً آخر مع الأسف."

بدأ صيف سنة ١٩١٩ بعواصف وامطار ورعود وصواعق أدت الى جملة وفيات في الانفس، كما تلفت المحاصيل الزراعية بفعل البرد، وغرقت شوارع بغداد ايضاً بفعل الامطار الغزيرة ايضاً.

كما حدثت في أواخر فصل الربيع من تلك السنة وافدة شديدة من الطاعون في مدينة الحلة وقد تم ارسالي انا هناك لتنظيم حملة ضد المرضىٰ، وقد امضيت ثلاثة أسابيع في تلك المدينة الريفية الجميلة التي تقع على ضفتي نهر الفرات.
كان من أهم الشخصيات التي زارت الحلة في ذاك الوقت العلامة الدكتور "برستيد" العالم الأمريكي وأستاذ التاريخ الشرقي، والاثار المصرية في جامعة شيكاغو. كان الدكتور بريستد يؤكد على أن مدينة الحلة الحديثة تمثل بابل القديمة، وأن أسم "بابل" يعني "باب الله".

عاد سندرسن بعد رحلة الحلة الىٰ بغداد بطريق متعب ورطب وحار جداً، ليعود ويسرد التفاصيل الجديدة لدخوله ببغداد و ابرزها اختياره طبيباً للعائلة .

أختيار سندرسن طبيباً خاصاً للملك فيصل الأول:

في اثناء تعييني مؤقتاً في مستشفىٰ العزل المدني استدعي زملائي في مصلحة الصح للمشاورة، وقد استُدعيت أنا ايضاً بعد ذلك مباشرةً إلىٰ غرفة الاستقبال الملكية، كان جلالته يشكو من سوء الهضم، ولم يكن علاج ذلك يتطلب سوىٰ القليل من إعادة تنظيم الغذاء، واستعمال مزيج قلوي.

هذه هي بداية العلاقة مع العائلة المالكة في العراق والتي استمرت طوال اربع قرون من الزمان ، حيث استقبل الملك فيصل سندرسن بأبتسامة ترحيبية حارة ومصافحة ودية خالصة، وكان الملك دائماً يرتدي أثواباً حريرية بيضاء فوقها عباءة من الوبر، والفيصل يؤلف شخصية محترمة ومهيبة في وقتٍ واحد، عينان بلون البندق ومحيا حسن، وقوام نحيف ومشدود فوق مستوىٰ الارتفاع بقليل وشارب أسود ولحية مقرمة تقريماً نظيفاً.

أصبح سندرسن وزوجته إلزي تتم معاملتهم وكأنهم أحد أفراد العائلة المالكة فقد كانا يدخلان القصر الملكي في اي وقو دون أدنى قيد، وبالإضافة لامتياز سخي نادر ظلا يتمتعان به داخل العراق وخارجه طوال ست وثلاثين سنة الى ان تم القضاء على الحكم الملكي في تموز ١٩٥٨ .

رحلة الملك فيصل الأول للعلاج في بريطانيا:
كان الملك فيصل اثناء تتويجه قليل الاهتمام جداً بصحته فلقد تولى الملكية في بلد غير مستقر، ليس له دستور ولا حكومة من ابنائه وكانت ايضاً اجزاء من البلاد لم يتم تقريرها بعد.  بدا التحسن في وضع الملك إثر اجزاء عملية الزائدة الدودية له، بعد سنة من جلوسه على العرس وظل في صحة جيدة حتى ربيع ١٩٢٥ عندما بدأ يفقد وزنه وشهيته ضعيفة كانت ويشكو من سوء الهضم ومن الكلل الجسمي والذهني.

وعند إجراء الفحص عليه اظهر اضطراب باطني عام، استمرت هذه الاعراض الىٰ ان وصل نقصان الوزن عنده الى خمسة وأربعين كيلوغراماً، وطرحت عليه فكرة ان يغادر البلاد الى ادنبره او لندن غير ان جلالته رفض هذا الاقتراح وأخر مغادرته الى ان يتم أقناعه بأن شفاءه يتوقف على ذلك.

وتم اختيار لندن لهذا الغرض وذلك بسبب وجود مفوضية عراقية فيها، والقائم عليها هو جعفر العسكري رئيس الوزراء السابق وواحد من أعظم القادة الذين كان فيصل يثق بهم اثناء الثورة العربية التي قاما خلال الحرب العالمية الاولى.

استنفذت اجراءات الرحلة بعض الوقت ومرت اسابيع قبل ان يتم تعيين الأمير زيد وهو متخرج من جامعة أوكسفورد وصياً على العرش في مدة غياب الملك واتخذت اجراءات لا حصر لها بالنسبة الى مغادرة الملك للبلاد، 
بدأت اجراءات السفر تقترب والتحظير الى سفرة الملك وصولاً ليوم السفر حيث اخذتنا الباخرة وصولاً الى بيروت وتحركت بنا الباخرة في عرض البحر فوصلنا الى ميناء يافا ثم الى الاسكندرية، وكانت نية فيصل الاصلية ان يقيم في باريس عدة ايام قبل ان يواصل سفره الى لندن لكن حالته الصحية ما لبثت ان ساءت عند وصولنا الى مارسيليا وتفاقم الألم في جوفه، اثار وصول فيصل الى لندن اهتماً مشهوداً ومنذ اللحظة الاولى التي وصلنا فيها الى فندق هايد بارك راح يرن جرس الهاتف واخذ محررو الصحف يتصلون بلا انقطاع للحصول على الانباء، وظهرت في كثير من صحف لندن بالإضافة الى الباريسية شكوك كثير مفادها "ان زيارة الملك هذه لها اهميتها السياسية الخطيرة".

ولقد كانت مصادفة غريبة في تلك الاجواء المشحونة حين استدعاني الملك، وخاطبني قائلاً: "أرجوا أن تخبرني كصديق وليس كونك طبيبي الخاص هل سوف أشفى من المرض؟" وبعد أن اجبته بالتأكيد القاطع، رد جلالته قائلاً: " لستُ أخاف الموت، لكن لدي الشيء الكثير الذي أن أحققه لبلادي قبل أن أموت. فإذا كنت تعتقد أن حالتي لن تتحسن، فدعني أعرف ذلك الآن لكي أسارع الىٰ تنظيم منهاج حياتي".

بعد ذلك استقر وضع جلالته واستكمل رحلته الى فرنسا لأغراض عديدة، ثم عُدنا الى العراق وبعد العودة كانت زيارة دبلوماسية لجلالته الىٰ أيران حيث استقبل جلالته استقبالاً مهيباً، وتبادل العلاقات ايضاً.

دخول العراق عضواً في عُصبة الأمم :

تم قبول العراق عضواً في عصبة الأمم في اليوم الثالث والعشرين من شهر تشرين الأول سنة ١٩٣٢ وفي الوقت ذاته انتهى الانتداب البريطاني على العراق واعتبرت المملكة دولة ذات سيادة . بعد هذا الحدث سافر الملك بطائرة خاصة الى عمان في طريقه الى لندن حيث كنت حريصاً على مرافقته بشكل شديد بسبب وضعه الصحي.

عقب وصولنا الى القاهرة قام الملك فيصل بزيارة مجاملة للملك فؤاد في قصر عابدين، ثم كانت بعد القاهرة مغادرة الى الاسكندرية، وايضاً زيارة بلجيكا كانت ضمن منهاج زيارات الملك فيصل لان "إلبرت" ملك بلجيكا قد بعث دعوة غداء الى الملك ومع الملكة إليزابيث في سرادقها الجبلي في "اوستند" حيث شارك الملك اعضاء حاشيته تلك الوليمة وكان مع الملك إلبرت واليزابيث والدهما"دوق برابنت والأمير شارل" ونظراً لهذا السخاء المفرط الذي أظهرته الحكومة فقد اصبح جلالته متعباً وراح يُصر على ان الغي عدداً من اللقاءات الاجتماعية غير الرسمية.

رغم وجود الحاجة الماسة لبعض الاجتماعات الرسمية صرت ألح كثيراً على ضيوفه لأنني لم اكن في الواقع مسروراً بالنسبة الى وضعه الجسماني ذلك ان شهيته غدت ضعيفة ونومه مضرباً ويدخن بإفراط.
ثم سافرنا الى "برن" وكانت سفرة قصيرة جداً فعاد الى بغداد اثر تسلمه برقية تلح عليه بالعودة حالاً.

بعد ان وصل الملك الى بغداد حتى وجد نفسه في دور ثانوي ذلك بسبب الدعاية الصحفية قد شخصت الاثورييت بأنهم عملاء للبريطانيين وتلمح ان زيارة الملك الى لندن كان بهاً ممتنعاً او رغماً عنه ويمثل دور مخالب القط، هذه الامور وغيرها من الضغوط اضافة الى الاستقبال الفاتر الذي استقبل به في بغداد تجربة مثيرة جداً ولذلك ادى الى اضطراب نومه وفقدانه للنوم وخانته شهيته فراح يتطلع الى الراحة عن طريق الإفراط في التدخين، وبعد شهر اي في اليوم الثاني من ايلول عام ١٩٣٣ وبعد استشارات طبية عاد فيصل الى سويسرا وراح بعد ستة ايام اخرى ضحية نوبة قلبية في الخمسين من عمره.

اذاع الفيلد مارشال "الفيكونت" كلمة تقديرية مناسبة في اليوم الذي اعقب وفاة الملك فيصل المفاجئة في "دبرن" جاء فيها :"كان الموت جم النشاط بين الرجال العظام على وجه الارض بوفاة فيصل ملك العراق اختفت شخصية من أبرز الشخصيات التي لعبت دوراً رئيسياً في الحرب العالمية".

لقد قرأنا آخر الكلمات التي تفوه فيصل بها حين قال :"أنا مسرور لقد قمت بواجبي، فلتعش الأمة من بعدي بساعدك وقوة، واتحاد".

وهذه كانت سطورا من الاسرار والتفاصيل الخاصة بالملك فيصل او العائلة الملكية التي ربما من الصعب ان نجدها بين اوراق المؤلفين، بالتالي لا نستطيع أن ننسىٰ او نتجاهل هذه الفترة من تاريخ العراق.