تطبيقات الذكاء الاصطناعي أتاحت فرصة غير مسبوقة للتسوق عبر الإنترنت بتقديمها توصيات أكثر دقة وأكثر تخصصا ومكنت المساعدين الرقميين من فهمنا بشكل أفضل، وبالتالي إقناعنا بإنفاق ما في جيوبنا.

نحن نعيش اليوم في عالم تحاصرنا فيه الإعلانات، التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، تقفز أمام وجوهنا من خلال شاشة الكومبيوتر المكتبي والمحمول واللوح الإلكتروني والهاتف الذكي، بعد أن كانت في الماضي تقتصر على التلفزيون وشاشات السينما والإذاعات ولوحات الشوارع والمطبوعات الورقية.

الإعلان اليوم، يختلف عن إعلان الأمس، فبينما أصبح بمقدور الجميع الترويج لبضاعته، سواء أكانت سلعة يمتلكها أم خدمة يقدمها، صغر حجمها أم كبر، اقتصر الإعلان في الماضي على الشركات الكبرى القادرة على إنفاق مبالغ طائلة للقيام بما كان يسمى “حملات إعلانية”.

من يتتبع خطواتك؟

سواء كنت تتصفح موقعا على الإنترنت أو تُغَوغلُ بحثا عن معلومة، أو تتصفح بريدك الإلكتروني، أو تدردش على صفحات المواقع الاجتماعي، ستلاحظ ظهور مساحات إعلانية على شكل نصوص وصور أو مقاطع فيديو. وبمرور الوقت سيلفت انتباهك أن هذه الإعلانات مفصلة خصيصا لك، فهي غالبا ما تعرض خدمات أنت في أمسّ الحاجة إليها، أو سلع تبحث عنها. تعلم ألوانك المفضلة، وتختار لك أطباق الطعام، والمشروبات وأماكن السهر وأين تمضي إجازاتك، والرحلة التالية التي تخطط لها. وتختار لك ما تحب سماعه من موسيقى وتعرف أغانيك المفضلة.


كل شيء يوحي بأن الجهات التي تغرقك بهذا الفيض من الإعلانات تعلم كل كبيرة وصغيرة عن حياتك؛ متى غادرت المنزل ومتى عدت إليه، وتعلم طبيعة عملك، ووضعيتك الاجتماعية، وتعلم عدد أطفالك وأسماءهم، ولا تستغرب أن تكون عارفة أيضا بأسماء الحيوانات الأليفة التي تملكها، ونوع السيارة التي تستخدمها وعمرها، أو وسيلة تنقلك.

وبطبيعة الحال تعلم تلك الجهات عمرك، حتى إن كنت سيدة تحاولين حجبه عن الآخرين. وتعلم أيضا من تزور من الأطباء، وما تعاني من أمراض. وقد تقترح عليك علاجات طبيعية، وما تتناوله من أغذية صحية، وتنصحك أيضا بالابتعاد عن أغذية أخرى ضارة لمن هم في حالتك.


لا بد أنكم تساءلتم من يقف خلف هذا النظام الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وأحصاها؟

إنه بالطبع الذكاء الاصطناعي، ومن خلفه جبال من البيانات والمعلومات.

العالم اليوم نهم للبيانات، أكثر من أيّ شيء آخر. ونحن كمستهلكين نساهم في تغذية هذا النهم للبيانات في كل قرار وفي كل خطوة، التي مهما بدت لنا قليلة الأهمية، توظفها الشركات لجني الأرباح. إنها الإوزة التي تبيض ذهبا.

ولكن، كيف يحدث كل هذا؟ وماذا يجري خلف الستار؟

تقوم الشركات الكبرى التي تتحكم بالاقتصاد العالمي بتجميع كميات هائلة من البيانات في كل يوم، وكل ساعة، وكل ثانية. ويبلغ حجم هذه البيانات المجمعة يوميا 2.5 كوينتيليون بايت.. هل تتساءل ما هو الكوينتيليون؟ إنه رقم متبوع بـ18 صفرا.


للاستفادة من هذا الجبل من البيانات وتوظيفها تحتاج الشركات إلى خدمة الذكاء الاصطناعي، وهو الأمر الذي كان بحكم المستحيل حتى وقت قريب.

خلال أقل من عشرين عام قطعت تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تتابع عادات المستهلك وتترصد خطواته، على وجه الخصوص، شوطًا طويلاً. وقادت إلى نتائج بحث أكثر دقة حول سلوك المتسوقين عبر الإنترنت ورغباتهم، سمحت بتقديم توصيات أكثر تخصيصًا، وبالتالي قادت الشركات إلى جني أرباح أكبر.

الفرص الاقتصادية الكامنة وراء هذه التقنيات هائلة، ورغم ذلك فإن الأعمال التجارية لا تمثل سوى حوالي 10 في المئة مما يمكن جنيه من الفوائد في حال استغلال الإمكانات الكاملة للذكاء الاصطناعي.

لهذا يجب أن تكون حذرا

لا ندري هل نقول من سوء الحظ أو من حسنه، أننا نحقق نموا مطّردا في توظيف الذكاء الاصطناعي والاستفادة من إمكانياته بسبب جائحة كوفيد – 19، رغم أنها أودت بحياة الملايين عبر العالم. وهذا ما يمكن أن نلحظه من تزايد عدد المؤسسات التي دمجت وتستعد لدمج الذكاء الاصطناعي في عملياتها التجارية، وفي تسيير العمل بسرعة أكبر.

أكثر من ثلث الشركات تستخدم اليوم شكلاً من أشكال الذكاء الاصطناعي لتوفير الوقت وتبسيط العمليات، وفق دراسة حديثة أجرتها شركة “آي بي إم”، تشير فيها إلى عدة مجالات لعب فيها الذكاء الاصطناعي دروا هاما في رفع الكفاءة وزيادة الأرباح.

خذ علي سبيل المثال تحدي التحولات الديموغرافية، حيث يساعد الذكاء الاصطناعي، جنبًا إلى جنب مع السحابة الإلكترونية، الشركات على أتمتة أنشطة أعمال روتينية معينة، ونقل العاملين البشر للقيام بمهام ذات قيمة أعلى.

في التصنيع، يمكن لمشغل أرض المصنع الآن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي لاكتشاف العيوب غير المرئية للعين البشرية.


في مجال الرعاية الصحية، يمكن للوكلاء الافتراضيين المدعومين بالذكاء الاصطناعي التعامل مع الملايين من المكالمات في وقت واحد.

في قطاع الطاقة، يمكن للروبوتات المستقلة استخدام السحابة والذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات لتحسين وقت تشغيل المعدات ومنع انقطاع التيار الكهربائي.

ولا يقتصر دور تطبيقات الذكاء الاصطناعي على جعل الأعمال أكثر ذكاءً وقوة وأمانًا؛ إنها تسرّع أيضا الاكتشافات العلمية. فيمكن للذكاء الاصطناعي تسريع استيعاب الأوراق العلمية واستخراج المعرفة بمقدار 1000 ضعف مقارنة بالخبراء البشريين.




في ذروة الوباء العالمي، قامت شركة “آي بي إم” بتطوير نظام للذكاء الاصطناعي أوكل إليه مهمة تمشيط الآلاف من الأوراق العلمية المكتوبة حول فايروس كورونا. ثم شاركت البيانات ذات الصلة مع عاملين في اتحاد الحوسبة عالية الأداء لكوفيد – 19 لتسريع تصميم الأدوية.

حجم النجاحات التي حققها توظيف الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات والاستفادة منها، يوازيه حجم المخاوف التي تولّدت عن هذه التطبيقات. لكي يكون الذكاء الاصطناعي فعالاً يجب أن يكون جديراً بالثقة وقابلاً للتفسير.

هناك أمور بسيطة لا تثير القلق، مثل الاعتماد على تطبيق ذكي لطلب العشاء. ولكن سيختلف الأمر تمامًا عندما تعتمد على أنظمة الذكاء في قيادة سيارت، أو إن كنت طبيبا، تقديم توصيات تتعلق بها حياة إنسان.

لهذا السبب، يجب أن تكون شركات التكنولوجيا واضحة وشفافة بشأن من يقوم بتدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي الخاصة بها، وما هي البيانات المستخدمة في هذا التدريب، والأهم من ذلك، ما الذي تم تضمينه في توصيات الخوارزمية الخاصة بهم.



تاريخيا، أدى إدخال التقنيات الجديدة إلى تغييرات حسّنت من خلالها الشركات أساليب الإنتاج بغرض زيادة أرباحها، وفي التخلص من المهام الخطرة والمرهقة والمتكررة؛ بدءا من طواحين هواء حلت بها قوى الرياح محل البشر، إلى المطبعة، إلى المحرك البخاري، وصولا اليوم إلى إحلال الروبوتات في المصنع.

هذه هي الطريقة التي طالما حدث بها التقدم. واليوم، سيحقق الذكاء الاصطناعي تقدمًا أكبر، ولكن فقط إذا تم نشره بشكل مسؤول.

تمتلك الشركات القدرة على الدخول في حقبة جديدة غير مسبوقة من زيادة الإنتاجية. ولكن، في كل هذا يجب ألاّ ننسى أن الغرض من أنظمة الذكاء الاصطناعي هو زيادة الذكاء البشري وليس استبداله.

المصدر: صحيفة العرب