المطلع
عاجل

post-image

لماذا يهاجر المثقّف العربي؟


17:14 ثقافة وفن
2023-05-31
385

كرم الحلو- بيروت

المتأمل في الفكر العربي الحديث والمعاصر، قد يذهله التمادي التاريخي لإشكالية الهجرة وتمثّلها في صور شتى لوعي شقي مزّق المثقف العربي بين خياري الوطن والاغتراب، الحرية مع الاغتراب والنفي، أو الوطن مع الاستبداد والإذعان والامتثال للطغيان. 
اختار أحمد فارس الشدياق الحرية ليمضي العمر بائساً شريداً بعيداً من أهله ودياره، مقارعاً الاستبداد الطائفي دونما خوف أو تقية. 
وكتب فرنسيس المراش: "إذا رأيت الوغد يحكم في أرض فهل تلبث فيها مقيماً؟"، فيما عبّر عن إعجابه بغربته الباريسية بقوله: "كم تستميل الإنسان هذه الديار التي تمنح الإنسان حرية غير مأسورة". 
وفي الآونة ذاتها كتب جبرائيل دلال من منفاه الباريسي: "إن قلبي يهوى الرجوع إلى الوطن، وصوابي يقتادني للرحيل"، فيما أمضى رزق الله حسون السنوات الطوال بعيداً من عائلته، يعاني لوعة البعاد من ابنه.

هذا الجدل القديم المتجدد بين خياري الوطن والحرية استمر في فكرنا المعاصر، حيث قدم حليم بركات صورة حية عن معاناة المثقف النقدي العربي المغترب بقوله في "الاغتراب في الثقافة العربية": "أحب شجرة الصفصاف لأنها تنكفئ على جذوره... كلما كبرت في العمر انحنت أغصاني على جذوري... لكنني أعرف أن العيش في الوطن يتطلب الامتثال والإذعان للأصوليات العقائدية والسياسية، ولذلك لا أعرف حقاً أيهما أشد قسوة المنفى أم الوطن". 
من منحى مشابه يعبر هاشم صالح عن السبب الذي جعله يؤثر الغربة على الوطن إذ يقول: "كان من حسن حظي أن وطأت قدماي أرض فرنسا المحررة من فقه القرون الوسطى، الفقه الظلامي الذي يفتك الآن ببلادي فتكاً ذريعاً".  
ويقول محمد أركون في آخر كتبه "التأسيس الإنساني للإسلام" (2012): "سافرت من أجل إحداث القطيعة مع المعرفة التي كنت أتلقاها في جامعة الجزائر والتي عفّى عليها الزمن... كنت أريد العودة إلى بلادي، لكنني لو عدت لكان مصيري واضحاً، التهميش والعزل، لذا بقيت في فرنسا". 
هذه النماذج من مواقف المثقفين العرب المعاصرين تكشف مدى الخلل في واقعنا العربي. فلماذا تبقى إشكالية الهجرة، الإشكالية المركزية التي تحاصر المثقف العربي؟ ولماذا يبقى الاغتراب قبلته ويبقى الغرب ملاذه الأخير؟ هل من صلة سوسيولوجية-أيديولوجية بين هجرة الأوائل من المثقفين العرب ومهاجريهم اليوم، بين معاناة أولئك ومعاناة هؤلاء؟ 

تطرح هذه الأسئلة حقائق أساسية تؤسس لتفسير إشكالية هجرة المثقفين العرب. أولى هذه الحقائق أن مجتمعاتنا تشكل بيئة طاردة لمثقفيها بدل أن تشكل بيئة حاضنة لهؤلاء نتيجة استبدادها السياسي وتكلسها العقائدي، فضلاً عن هشاشة شرعية الدولة الوطنية العربية. 
لقد عبرت النخبة المثقفة من مهاجرينا عن نزعة وطنية أصيلة، كما عبرت في الوقت ذاته عن رفض الطغيان السياسي والأصولي الذي حدا بها إلى الهجرة، وليس من دون دلالة التقاء مثقفي النهضة المهاجرين مع أندادهم المعاصرين في التعبير عن معاناتهم المشتركة. 
ثمة جوامع تؤكد وحدة المعاناة من أحمد فارس الشدياق وجبرائيل دلال وعبد الرحمن الكواكبي إلى حليم بركات وهاشم صالح ونصر حامد أبو زيد، جوامع تتمثّل في الاستبداد السياسي والعقائدي المتمادي على مدى الأزمان العربية. 
ثانيةً، تتمثّل الحقائق التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار لفهم إشكالية هجرة المثقفين العرب في إخفاق التوجه الحداثي في العالم العربي، وفشله في استيعاب روح العقد الاجتماعي الليبرالي. 
وهذا ما أبقى أوروبا قبلة الليبراليين العرب، من فرنسيس المراش إلى طه حسين إلى محمد أركون، وإذا كانت أفكار الوطن والعصبية الوطنية والقومية قد بدأت بالتسلل إلى الفكر العربي منذ القرن التاسع عشر، إلا أن فكرة العقد الاجتماعي والمواطني لم تقيض لها الحياة، فلم يلبث نموذج الدولة التسلطية الذي ازدهر منذ أواسط القرن الماضي، أن أفرغ المواطنة من مضمونها التعاقدي، مكرساً العداء بين المواطن والدولة. 

توجه المثقفين
من هنا بالذات يجب أن يفهم توجه المثقفين العرب التاريخي إلى الغرب وأوروبا تحديداً، إذ إن هؤلاء يتطلعون في الغرب إلى ما يفتقدونه في أوطانهم "الحق والحرية"، بالرغم من معاناتهم الوجدانية في الابتعاد من أرض الوطن.
أما ثالثة الحقائق التي تقف وراء هجرة المثقف العربي، فتكمن في إخفاق بناء مجتمع العدل الاجتماعي والطبقي وانهيار الطبقة الوسطى العربية، وتمركز الثروة العربية في أيدي فئة محدودة تسيطر على المقدرات الاقتصادية والإنتاجية. فيما تبقى الحقيقة الأكثر تجذراً والأكثر إرباكاً والتي تشكل سبباً رئيساً للهجرة، في إخفاق الإصلاح الديني الذي نادى به متنورو النهضة العربية من الطهطاوي وعبده إلى علي عبد الرازق وأمين الريحاني وسواهم.
لقد نادى هؤلاء بقراءة النص الديني قراءة متنورة تستوعب روح العصر الليبرالية وتؤسس لوطنية تضع حداً للنزاعات الطائفية، لكن هذه القراءة وُئدت لمصلحة القراءة الأكثر ظلامية، وصولاً إلى ممارسات "داعش" الكارثية.
ثمة فجوة واسعة إذاً لا تزال تفصل بين انتمائنا إلى أوطاننا وانتمائنا إلى عصرنا وإنسانيتنا، وما لم تتم المصالحة بين الوطن والحرية، مصالحة تدرجنا في عالمنا وحداثته، فسيبقى المثقف العربي يتطلع خارج أمته بحثاً عن نافذة حرية، لكن ذلك لن يخرجه من مأزقه وتمزقه بين وطنه وحريته. 
إنّ خلاص المثقف العربي يكون في أمة عربية محررة من طواغيتها، وفي مجتمعات تعترف بالإنسان وحقوقه الوطنية والاجتماعية والإنسانية. ما عدا ذلك ليس إلا إمعاناً في الاغتراب والانسلاخ عن الذات واتساع الهوة بين المثقف العربي ووطنه ومجتمعه.

 

من النهار العربي 

كلمات مفتاحية

اخبار ذات صلة

تعليقات

أحدث الاخبار

بالوثيقة... التربية تحدد الدوام في مؤسساتها من الثامنة صباحاً إلى الثالثة مساءً

بالوثيقة... التربية تحدد الدوام في مؤسساتها من الثامنة صباحاً إلى الثالثة مساءً

2024-05-05 14:54 5
بالوثيقة... السوداني يوجه بإطلاق مئة وخمسين ألف درجة وظيفية بعموم العراق

بالوثيقة... السوداني يوجه بإطلاق مئة وخمسين ألف درجة وظيفية بعموم العراق

2024-05-05 14:32 9
رئيس الوزراء يمنح أعضاء المنتخب الأولمبي أراضي سكنية ومكافأة شهرية مستمرة

رئيس الوزراء يمنح أعضاء المنتخب الأولمبي أراضي سكنية ومكافأة شهرية مستمرة

2024-05-05 14:02 7
نيجرفان بارزاني يصل طهران للقاء خامنئي و شخصيات إيرانية كبيرة

نيجرفان بارزاني يصل طهران للقاء خامنئي و شخصيات إيرانية كبيرة

2024-05-05 13:03 12
التجارة: انطلاق اجتماعات الدورة السادسة للجنة العراقية - الإيرانية بطهران

التجارة: انطلاق اجتماعات الدورة السادسة للجنة العراقية - الإيرانية بطهران

2024-05-05 12:19 9
الصحة النيابية: تسجيل "2638" حالة إصابة بالإيدز بالعراق خلال الأعوام الماضية

الصحة النيابية: تسجيل "2638" حالة إصابة بالإيدز بالعراق خلال الأعوام الماضية

2024-05-05 12:08 11
مفتن يشيد بالتأهل المستحق لأولمبياد باريس: منتخبنا يستحق كل الدعم والتكريم

مفتن يشيد بالتأهل المستحق لأولمبياد باريس: منتخبنا يستحق كل الدعم والتكريم

2024-05-05 11:58 10
مصدر: السوداني وجه بتعديل ملاك منصب قائد العمليات بالجيش العراقي

مصدر: السوداني وجه بتعديل ملاك منصب قائد العمليات بالجيش العراقي

2024-05-05 11:37 20
العراق في مقدمة البلدان العربية بالسياحة إلى تركيا لشهر شباط 2024

العراق في مقدمة البلدان العربية بالسياحة إلى تركيا لشهر شباط 2024

2024-05-05 11:32 13
جنايات كربلاء: السجن المؤبد بحق تاجر مخدرات عن جريمة الاتجار بالمواد المخدرة

جنايات كربلاء: السجن المؤبد بحق تاجر مخدرات عن جريمة الاتجار بالمواد المخدرة

2024-05-05 11:11 14
التربية تكشف عن الفئات المعفاة من أجور التقديم على المدرسة الإلكترونية

التربية تكشف عن الفئات المعفاة من أجور التقديم على المدرسة الإلكترونية

2024-05-05 10:57 16
السوداني يستقبل بعثة منتخبنا الأولمبي الحائز على بطاقة التأهل لأولمبياد باريس

السوداني يستقبل بعثة منتخبنا الأولمبي الحائز على بطاقة التأهل لأولمبياد باريس

2024-05-05 10:39 13
أسعار الدولار تسجل انخفاضاً جديداً بأسواق بغداد وأربيل

أسعار الدولار تسجل انخفاضاً جديداً بأسواق بغداد وأربيل

2024-05-05 10:36 25
ضبط بحوزته أختاماً مزورة... جنايات الرصافة تحكم بالسجن 15 سنة بحق مدان

ضبط بحوزته أختاماً مزورة... جنايات الرصافة تحكم بالسجن 15 سنة بحق مدان

2024-05-05 10:27 11
بعملية نوعية.... الحشد يحكم قبضته على تاجر مخدرات في الأنبار

بعملية نوعية.... الحشد يحكم قبضته على تاجر مخدرات في الأنبار

2024-05-05 10:18 15
اليوم... خمس مواجهات في ختام الجولة الـ 26 في دوري نجوم العراق

اليوم... خمس مواجهات في ختام الجولة الـ 26 في دوري نجوم العراق

2024-05-05 10:11 13
الأنواء: أمطار رعدية وانخفاض بدرجات الحرارة خلال اليومين المقبلين

الأنواء: أمطار رعدية وانخفاض بدرجات الحرارة خلال اليومين المقبلين

2024-05-05 10:02 13
أنشيلوتي بعد حصد "الليجا": نستحق هذا التتويج  وعلينا الاستمرار

أنشيلوتي بعد حصد "الليجا": نستحق هذا التتويج وعلينا الاستمرار

2024-05-05 09:57 14